Friday, July 23, 2004

المقدمة



مع كلّ خفقةٍ من خفقات قلبي ، ومع كلّ خطوةٍ أمشيها ، تهرب الثواني منّي مسرعةً ، لترمي نفسها في حفرة الدقائق ، التي ما إن تطفح بها حتى تنتهي في خزّان الساعات . ومثلها الساعات في اليوم ، واليوم في الأيّام ، والأيّام في السنين ، والكلّ الكلّ في الماضي ...
الماضي الذي يكبر خلف كلٍّ منّا ، بنفس سرعة الوقت الذي نقضيه ونحن أحياء ... وهدفه بالتأكيد ليس إغراقنا ، بل تأسيس حاضرنا وتركيزه ... لبناء المستقبل ، الذي تعلّمت منذ نعومة أظافري ألّا أفكّر إلّا فيه ، لأنّ كلّ من يقف مكانه لينظر الى الوراء يسقط ...
والنظر الى المستقبل بعين الإيمان ، علّمني حبّ الحياة ...
فمع كلّ خفقةٍ من قلبي ، أحسّ بعمرٍ جديدٍ ينبعث فيّ ... ومع كلّ خطوةٍ أمشيها ، أرى الخليقة متقدّمةً معي ... ومع كلّ تكةٍ من الساعة ، تتكاثر كنوزي الروحيّة وتتكدّس ، مستغلّةً الثواني الفانية للحصول على الأبديّة ...
آه كم أحبّ الحياة !... آهٍ كم أحبّها !... فما من شيئٍ استطاع أن يكرهني على بغضها ... حتى الأشياء التي يقول عنها الناس أنّها بشعة ، كنت أحملق وأفكّر فيها ساعاتٍ وساعات ، لأخرج منها ما يحبّ ... حتى الخطيئة التي لا يحزنني إلّا سقوطي وأخوتي فيها ، فقد عجزت عن إبعادي عن حبّ الحياة . ولم تنجح إلّا بزيادة مقتي للشيطان ، ولضعف الإنسان . لا بل وأكثر ، فقد دفعتني لأحاربهما فكراً ، وقولاً ، وعملاً ...

الخطيئة


منذ الخلق والشياطين تحوم حول الإنسان كي تجد من يبجّلها ، ويعترف بقدرتها وألوهيّتها
منذ الخلق وهي تعمل لجعل المخلوق ينكر خالقه ... وتحاول جاهدةً ودون فائدة لإجبار الربّ على التخلّي عن آخر صنائعه ، بإثبات أنّه غير جديرٍ بمحبّته ورعايت
والإنسان هو هو ، لا يتغيّر ، ضعيفٌ ، لا يرى أبعد ممّا أمام ناظره ... دائم الخوف ، فيندفع بالغريزة وراء كلّ ما هو سهل ... والمصيبة تكمن في أنّ كلّ طرق الشر مبهرة للنظر عند مداخلها ، وداخلها مخفيٌّ بإغراء ، وهي في الحقيقة لا تودي إلّا إلى الدمار
وأمّا طرق الربّ فتحيط بها هالةٌ من الصعوبة ، وهي تنكّد على الإنسان حياته بالقوانين ، وتدعوه لترك المادة حوله ، هو الذي منذ نزوله إلى الأرض راح يجمع منها ويكدّس ، كي يكون بغنىً عن إلهه ، وحاضراً للجوع والعطش والعري والتشرّد ، لكن غير حاضرٍ أبداً للموت ، فالحياة الأبديّة
فصار بذلك تقديس الجسد دين البشر ، والصراع من أجل البقاء ناموسهم
فبذل ويبذل كلّ منّا أقصى ما في وسعه لإرضاء شهواته ، فلا تعتب عليه يوماً ... وإن فوّت فرصةً ما لبقي ليالي ساهراً ، نادماً
وروحنا ، التي من الّله ، مهملةٌ ، منفيّة ، فمن منّا يراها أو يعرف قيمتها عندما يكون هناك ما يرضي الجسد ، فهو هنا على هذه الفانية لمرّة واحدة قبل أن يتلحّف بالتراب
دوماً ، ما يرضي أجسادنا تنبذه روحنا ، وما يرضي روحنا ننبذه جميعاً
أكثر ما قد نفعله هو إدانة الخطيئة ، لكننا عند التجربة ، نسير فاغري الفاه خلفها ، مسحورين بطعمها ، ومذلولين بوساختها
وأنا أركعتني الغواية ، وجرّتني مستيقظاً إلى مخدعها ، وأذابتني في عالمٍ أسودَ ، مختلفٍ عن الذي كان يجب أن أعيشه ... وكنت أعتقد أنّ لا أحد يراني ، ولا أحد يحسّ بي
أعمتني ، فخلت السمّ خبزاً يوميّاً ... فاجتاح دمائي ، وصرت عبداً ، نيره ثقيل ...صرت وحيداً منبوذاً ... فحزن اللّه ، وفرح الشيطان

الغفران


عندما لسعتني الخطيئة ، صرت أمقت كلّ شيء ...
حتى نفسي صارت تخشى النظر في المرآة كي لا ترى بشاعتها ...
وككلّ إخوتي ، رحت أبحث عن منفثٍ للآلام ، فقرعت أبواباً كثيرة ، لكنّ واحداً منها لم يفتح ... فقلت حزيناً : أعطاني الّله ميراثي ، فأهدرته على الفسق والزنى ، وها أنا أعيش مشرّداً ، ومن حولي تدور رحى الحرب ، والرعب والدمار في كلّ مكان ...
خسرت كلّ شيء ...فرحت أركض هارباً ... فمزّقت رجلي الحصى والأشواك ، ودمائي شربت منها الأرض التي ولدتني ...
وكنت أقول دوماً ، لا بل أتمنّى :أيستقبلني بعدُ أبي الساكن في مجده وملكوته ، بعدما تخلّيت عنه بمعصيتي ...
أيقبلني خادماً حقيراً ، فأعيش على فضلات المحبّة والسلام المتساقطة من خدّامه ...
لكن قد يكون كتب لرأسي ، أن يبقى منحنياً إلى الأبد ...
وبينما كنت نائماً في ليل خطيئتي ، قُرع باب قلبي المهترئ بالمذلّات ...
فرحت أقول :ليس لديّ ما أقدّمه لك ، فأنا معدم الجسد والروح ، لا أنفع لشيئ ..
.ثم قلت في نفسي :أيعقل أن يكون الطارق يحمل شيئاً يبلّ به عطشي إلى الحياة ... لكن ، من يسأل عني أنا ، فقد أهملني الجميع ، بل حتى صرت عالةً عليهم ، والأفضل لهم قتلي ... والطرقات بدأت تتزايد وتيرتها ، فبدأ الخوف يسري في عروقي ، ورجلّي ويديّ انشلّت ، فلم أعد أقوى على الحراك ... ثم بدأت عيناي بالبكاء لأنّي أحسست بأنّ ساعتي قد دنت ... لأنّي اعتقدت أنّ ملاك الموت جاء ليقبض روحي أنا الغارق في الظلمة ... فرحت أصرخ : مصيري الجحيم ... مصيري الجحيم ... قضي عليّ ...ولا أعرف ما هي القوّة التي زحزحتني ، ربّما لأنّي ميتٌ لا محالة ، ولا مكان أهرب منه أو إليه ...
ففتحت الباب ، ومن كان أمامي ، من ؟...هذه الكلمة الأخيرة التي قلتها ؟... وأمّا أخي الأكبر ، المسيح ابن الّله ، فعانقني بشدّة ، بلهفة من أتعبته سنون طوال من الشوق ...عانقني أنا الذي تفوح منه رائحة البشر ...عانقني بثياب ملكه أنا الحقير ، الخائن ...
عانقني ، فطهرت من خطيئتي ...ثمّ مسح عن عيوني الدموع ، وقال :
بحثت عنك في البرّية ، في كلّ جبلٍ ووادٍ ، وها أنت !؟...
لن تصدّق كم أنّ فرحي عظيم ، وكم سيكون فرح الآب الذي أرسلني ...
هلمّ ، هلمّ إتبعني ...
حاولت أن أقرّ بذنوبي ، فوضع يده على فمي ، وقال بابتسامةٍ عريضة : أعرف ... أعرف ... أنت من كنت ضالّاً فوجدتك ... أنت من كنت ميتاً فإلى الحياة تعال ...
وما لبث أن نظر في عينيّ وقال : قم واجمع معي ...
إتبعني فلا تموت أبدا ...
فقلت : أنا لك يا ربّ ...
فرحل مبتسماً ، وبقيت فيّ روحه ... فرقصت جذلاً ، على صوت قرع أجراسٍ قريبةٍ وبعيدة ... وفي الصباح استفقت ، فرأيت العالم جديداً ...

النبع



مثل الغيوم نحن أبناء الّله ، يرعد ويبرق فينا روحه القدّوس ، فنتّحد بالأرض لنتفجّر ينابيعَ ، فيرتوي أهل الحياة جميعاً ...
هكذا مرّت أيامّي الكثيرة ، أسبّح الربّ الذي أعطاني ، وأفرح بما أعطي للأرض التي أوكلت بها ...
فرويت الأشجار والأزهار ... وذهبت إلى العلّيق في الأودية ، التي كنت قد هجرتها في صغري ، لأنّها كانت تدمي رجليّ... شربت ممّا أحمل ، فصارت أشواكها أوراقاً ...
تغيّرت حياتي ، فتغيّرت حياة من هم حولي ...
آه ! ما عرفت يوماً سلاماً مثل هذا ... وما أحسست يوماً بمثل هذه السعادة ...
لماذا ؟
لأنّي اقتنعت أنّي لا أستطيع أن أزيد شعرةً على رأسي إن بكيت أو ضحكت أيّاماً كثيرة ...
لأنّي عرفت بأنّي ، كما كلّ إنسان، غالٍ لدى الّله...

الحاجة



ولدت من جديد ، غصناً طريّاً ، يحتاج إلى الكثير كي يكتمل ... فإيماني كان قد بني على كلّ ضعفاتي ، ولم يكن له خبرةٌ فيما قد يفعل الشيطان لهدم ما أوجده الّله ، والجهل سيّدٌ ظالمٌ إذا حكم ...
فقام عليّ الناس ، الذين استقوا فرحين من المحبّة التي أحمل ، لأقناعي بأنّ هذا الإيمان إنّما هو هفوة شبابٍ ، سينطفئ عندما أعارك الحياة ...
فشككت ، ليس بالّّله ، بل بثباتي فيه ...
وأنا من ذاق العذاب في الغربة ، صار السلام لي ، فخفت من أن أفقده ، مع أنّي أُعطيته مجّاناً ... فولدت فيّ هذه الحاجة ، بأن أتشبث به ، فلا أضيّعه أبداً ... لكن كيف وأنا لست هذا الفهيم ، الضليع ...
فنغّص عليّ هذا الخوف حياتي، والنقص زاد على كلّ ما فيّ ...
ومن يخَف ليس بمؤمن ...
لكنّي لا أريد العودة إلى ذاك الماضي ... لا ، لا أريد أبداً ...
فأغلقت الباب على نفسي غارقاً في التفكير ، بالطريقة التي أحافظ فيها على إيماني ...
وهدمني حزني في حينٍ كانت المحبّة فيّ ...

قطرة الندى



ولّدت الوحدة في رأسي أوهاماً ومخاوف كثيرة ... ولياليّ أفرخت فيها الكوابيس ، ونمت بسرعةٍ كبيرة ، فلم يعد رأسي يسع الآلام ، ولا قلبي يحتمل الأحزان ...
فماذا فعلت ؟ ووراء ماذا انجررت ؟ ...
من يوقفني ؟ من يمنعني من الغرق غيرك يا الّله؟...
لكنّ الأوقات يختارها الّله، ولا نعرفها نحن ...
فبعد أيّامٍ كثيرة ، وبينما كنت نائماً ، سمعت صوتاً يناديني من بستاني . خرجت راكضاً من قوقعتي تجاهه ، وكنت كلّما اقتربت أكثر فأكثر منه أحسّ بعطشٍ غريب ، يزداد شيئاً فشيئاً ، حتى صار لا يطاق ... فوقفت في وسطه تائهاً ، كّانّي ما عرفته من قبل !... وكان الجفاف قرّح أحشائي ...
وفي غمرة هذا الضياع والعذاب ، انطلق صوتٌ ناعمٌ غريب من وردةٍ بيضاء ، فتلفّت يمنةً وشمالاًً ، لكنّي لم أجد شيئاً !... ثم تردّد الصوت نفسه فاقتربت منها...
ويا لدهشتي! ماذا وجدت؟...قطرة ندىً تبرق على ضوء شمس الصباح ، متدليّةً كعنقود عنب من حبّة واحدة على طرف الورقة ...
قطرة ندىً لعطشان !...
حملتها متلهفاً على كفّي ... فما إن لامست جسمي حتى انطفأ ذاك العطش ، وصارت قطرة الندى أمامي طفلةً ، صاحبة جمالٍ ملائكي ...
وكانت أسرابٌ من الفراشات ، بأسراب ألوانٍ بهيّة ، تحطّ على شعرها لتشرب من رحيقها ... ولم تقل كلمةً ، إلّا ببسمةٍ من شفاهها الصغيرة ...
ثم رفعت يديها صوب الشمس ، فرفرفت بخاراً ، طوّقني من كل جهة ، فتشرّبها جسدي وروحي ...
وفي غمرة كلّ هذا ، كنت معقود اللسان ...
ألمي انهار ، وحزني انكسرت شوكته ، وأمّا دموعي فتحالفت مع الفرح والسعادة ...
فوقفت صامتاً أمام الوردة التي احتضنتها على أوراقها ...
فقالت الوردة :ألا تريد أن تشكر الذي أرسلها إليك ، من يرسلها إليّ في كلّ يوم ؟.
فقلت :أشكر الّله في كلّ حين ، لأنّه لم يتركنا للألم والموت ...
قالت :هو خلق الأرض وكلّ ما عليها من أحياء ، كلّ بقوّته وضعفه. ولكلّ داءٍ أوجد دواءً ...
قلت :وهي دوائي ؟...
قالت :هي دوائي ودواؤك، ودواء كلّ سكّان الحقول والغابات والصحاري ...هل سمعت الصمت يوماً ؟...
هو صوتها...
هل رأيت الشفافيّة يوماً ؟
هي جسمها...
هل ذقت الحلاوة يوماً ؟
هي طعمها...
هل لمست الطهارة يوماً ؟
هي قلبها...هل عرفت البراءة يوماً ؟
هي روحها ... إ
نّها قوّةٌ ووداعة ، مسكوبة في أنوثة ، مباركةٌ من الّله لدى نزولها إلى الأرض ...
هي حكيمة... ومع كلّ ما لها ، وفيها ، فهي الصغرى في الملكوت !...
هي ترى ببصيرتها ، فلا تنظر إلى تاجي كما يفعل الناس ، بل تعرف قلبي ...
فقلت مهمهماً :إنّي قد رأيتها قبلاً ، لكنّي لا أذكر أين !...
قالت : أنت من أين جئت ؟...
فقلت :من الّله حملتني الغيوم ، ورمتني فوق الأرض ، فغُصت فيها ، ثم تفجّرت نبعاً ! ...
ثم نظرت إلى الغيوم قائلةً بحنان :هناك التقيتما ... فهي أيضاً حملتها الغيوم من البحر ، ورمتها على الأرض ... لكنّها خفيفةٌ ، صغيرة ... لا تستطيع الغوص في الأعماق ... فحوّلتها الشمس بخاراً في النهار ، لتعود وتظهر في الليل كي تكون ابنة النور الخادمة في الظلام ...
نعم ، هناك التقيتما ... في الغيوم التقيتما ...
فقلت : وما الفرق بين مائي ، والندى ؟...
فقالت : ماؤك يدخل أصولي ، ويسير في عروقي ، فينمّيني ويقوّيني ... أمّا ماؤها فمسحةٌ تشفي الجراح ، التي يخلّفها النهار عندما تحطّ عليّ في الليل ...
أنت طلبت سدّ ما ينقصك ، فانهل منها ، لأنّها من الّله أتت لأجلك ...
قلت : كيف أجدها غداً لأنهل منها ؟...
فقالت :سر كما يقودك تساؤل قلبك ، هناك تجدها ... وحيث تكون ، كلّمها ، فهي تعرف أسرار السماء ... وعندما تنتهي ، ضعها في مجاريك ...
واعلم أنّك في كلّ يومٍ ستقطف واحدةً من الأرض وتأخذها ... كلٌّ منها تحمل لك درساً مختلفاً ، وأنت تحملها بها فتصل بهم وبك إلى البحر ... لا هي دونك ، ولا أنت دونها ...
فقلت :إذا كنت سأجمع كلّ القطرات ، متى أصل البحر ؟... كم سيطول عمري لأفعل ذلك ؟...قالت :وهل للمؤمنين أعمار ؟...

ألمٌ وضياع



نظرت إلى نفسي التي هشّمها سقوطها ، وقلت : ماذا فعلت ؟
ألم يكن الملك لي في الأمس ؟...
ألم يكن فيّ سلامٌ أنشره على إخوتي من حولي ؟...
ألم أكن ينبوع ماءٍ حيّ يروي الناس بالمحبّة ؟..
.لماذا صرت بعيداً ، أنا الذي كنت قريباً من كلّ شيء ?
فصرخ فيّ الضمير قائلاً : قد أخطأت بشكّك ، فلو كان قلبك ملتهباً بالربّ لما حصل شيء ..
.قد أخطأت بتردّدك ، فالّله يمقت الفاتر ، ويطرده من حضرته ...
لا أذكر أنّي بكيت في حياتي أكثر من هذا اليوم ... فقد تملّك منّي الضياع ، وفقدت السعادة والسلام ...
فصرخت أعماقي : أعرف يا ربّ أنّي أثيمٌ ، ضعيف ...
فأعطني يا ربّ حكمةً وقوّةً ، لأبقى قربك ، لأثبت فيك إلى الأبد ...أرجوك إستجب يا ربّ ...استجب وأرحمني ...

قوّة لطرد الشياطين



كنت أعرف أنّه مهما بلغت قوّة الشياطين ، ومهما اشتدّ جبروتهم فهم لا يصارعون الإنسان ، بل يعملون ليكونوا شركاء له ... ولا يقومون بحركة ، أو ينبسون ببنت شفّة إلّا بموافقته الشخصيّة ...
ومهما كانت حيل الشياطين خبيثةً ، فما من طريقٍ يُدخلها روح الإنسان إلّا الخوف الناتج عن قلّة الإيمان ...
وأنا إنسانٌ ضعيف ، قليل الإيمان !... فلا أريد أن أفقد السلام يوماً ، وإن وقعت في تجربة ... فكيف أطرد الشيطان ؟...
طرت إلى مغارةٍ ، سكنها أحد النسّاك ، فوجدت قطرةً تعانق الحشائش الصغيرة ، المتدلّية من رفٍّ كان يضع عليه كتبه ... فرفعتها قائلاً :سلام ...
فردّت :لشعب الّله ...
قلت مهمهماً :أريد السلام الأبدي ... أريد طرد شياطيني ... كيف أستطيع ذلك ؟...
قالت :بالصلاة ، والصوم ... والغيرة للّه...
قلت :وكيف أكون غيوراً ؟...
فقالت :كرّر كلام رئيس الملائكة عندما دحر قوى الشرّ وطردها من الجنّة : من مثل الّله ؟... وزد عليه : حياتي كلّها للّه ، وستظلّ كذلك ، ومهما حاولت، أنا لا أحبّك ، ولن أكون يوماً من جندك ... ومهما تعالت قوّتك على ضعفي ، ستبقى دوماً مثل الحشائش ، التي تيبس وتحترق أمام نار الّله المقدّسة ، الساكنة في أعماقي ...
فسمع جيراني صراخي ، الذي أيقظهم من سباتهم ... وكنت أقول وهي تتسلق حبال النور لتصعد إلي :لن أكون يوماً من جندك ...لن أكون أبداً ...

الخلاص


كنت دوماً مسرحاً لصراعٍ غريب ، فقد كنت أكره الشر ، ولا أعمل أبداً سواه ... وكلّما سقطت ، أنطوي على نفسي ، أحزن ، وأبكي ... حتى أنّي انتقمت من جسدي وروحي مرّاتٍ ومرّات ... وباختصار ، كلّما أخطأت ، كانت حياتي تتحوّل جحيماً ...
حاولت كثيراً الوقوف في وجه الشر المرتفع عليّ ، لكنه كان ينتصر دوماً ، فماذا أفعل ؟...
فحملني سؤالي إلى ديرٍ قابع في إحدى الأودية العميقة ، المحيطة بقريتي ... وجدتها على الصليب ... وعندما صارت في يديّ طفلةً ، حييتها قائلاٍ :سلام الربّ ...
فردّت :على كلّ الأرض ... ثم أعقبت قائلةً : إنّ الإرادة نافعةٌ جدّاً ، لا بل وفعّالة ، لكنّها أبداً ليست الخلاص ... وليس فيها الحلّ لدحر قوّة الشرّير ومغرياته ... فمقابل الإرادة تقف التجربة ، وقوّة الأخيرة تكبر مع الأولى ، إلى حين وقوع الإنسان ...أمّا الخلاص الحقيقي ، فهو من الّله ، الذي يرسل روحه القدّوس فيسكن فيك ، باعثاً في كيانك سعادةً لا توصف ...
فبدل أن يدخل بريق المادّة عينيك ويعميهما ، يخرج النور من عينيك ، فترى حقيقة كلّ ما حولك ، وتعرف تفاهة كلّ ما في هذا العالم ... مدركاً قيمة الحياة الحقيقيّة ، الّله فيك ، وأنت في قلبه ...
لذلك ما من إنسانٍ يخلص من ذاته ... ولن يخلص إن لم يفتح باب قلبه المتحجّر بالمادّية ، والغارق في الهموم ، المسودّ بخطيئته ، الحزين بضعفه ، والكسول بخوفه ... لن يخلص إن لم يفتح لمن يقرع دوماً بطريقته القتاليّة المعهودة ... لمن يعدّ في كلّ ليلةٍ عاشقيه وأتقيائه ، ويخرج من سماء ملكه بحثاً عن التائهين ... ولا يكنّ ، ولا ترقد له عينٌ قبل أن يرى الجميع في حظيرته ...
ما من إنسانٍ يخلص إن لم يؤمن بمن نزل من سمائه ، وعاش بين الناس ، عرف ضعفهم ، وصلب عن خطاياهم ... نعم صلب عن خطاياهم هو البريء من كلّ خطيئة ... ففدى جنسهم ، وأعتقهم من العبوديّة لأوثان نفوسهم ...
فلا تحزن بعدُ ، لأنّه ما من خلاصٍ بالأعمال ، بل بالإيمان ... أمّا أنت فقاوم بما أعطاك اللّه من قوّة ، لكن عندما تسقط ، قم وأطرد الشيطان منك ...
ثم برقت ، عندما رفعت الشمس المستيقظة يديها فوق الغطاء الجبلي ، وسبحت مع النسيم روحاً ، فشربتها بأنفاسي ...
فوقفت متعجّباً من معرفتها ، وقلت في نفسي :إن كان لصغير في ملكوتك هكذا حكمة ...فكيف تكون وأنت نبع الحكمة ؟...وفي تلك اللحظة غلبني النعاس ، فنام جسدي على الأرض ، وحلّقت روحي جذلةً ، وهي تقول : سبحانك يا ربّ ، يا مخلّصي ...

الصوم


كنت أعرف الصوم قريناً لصلاة ، لكنّي لم أصم يوماً ... لأنّي لم أعرف مغزاه ومعناه ، ولا كيف يكون ... سألت أناساً كثيرين ، لكنّي لم أقتنع بشيءٍ ممّا قالوه ... ولن أنكر أنّ تفكيري هذا قد يكون من فعل إبليس ، وهذا ما اقتنعت به لاحقاً ... فكما منعني من الصلاة بأفكارٍ لا تخطر على بال ، فسيمنعني من الإقتناع بما يزرع فيّ من تعجرف ... وإن اقتنعت ، ولو بالقليل ، فسيضع أمامي ألف ألفٍ من الحواجز ... فأردت معرفة الصوم ...
فسُيِّرت صوب بقايا ديرٍ بُني في الصحراء ... وكانت القطرةً متدليّةً من إحدى الأشجار اليابسة ... فاقتربت ، لمستها ، ثم رفعتها صوب السماء ، وأنا أضحك في قلبي فرحاً ، وقلت : صباح المجد ...
فردّت : لملك المجد ...
قلت :وماذا تفعلين على شجرةٍ يابسة ، لا فائدة منها ...
فقالت :هذا هو الصوم ...ألّا تدين ، ولا تشترط العطاء ...
أن تصمت ، عندما يكون في جعبتك الكثير من الكلام ... أن تحفظ طهارتك ولطفك ولو ساكنك الكفر ...
فقلت :وكيف يعمل الصوم فينا ؟...
قالت :إنّ سقوط الروح في الخطيئة ، مثل سقوط إبريقٍ زجاجي على الأرض ... فقطعها المتناثرة ، كلّ تحسّ بالألم من طرف الثلم فيها ، وبألمٍ داخليٍِ أعظم بكثير من ألم الأطراف ... ألم الحنين إلى الجمال والقوّة ، الحنين إلى الوحدة ، الحنين إلى القدرة على استيعاب الماء الحيّ ، لريّ العطاش بالمحبّة ...
وكسور الأرواح ، مختلفةٌ بعلاجها عن كسور العظام ... فإن كانت العظام بحاجة إلى مواد تثبيت وتجبير ، فكسور الأرواح لا تشفى إلّا بإحساس الأجزاء في آنٍ واحد أنّها واحدٌ في ذاتها ، والكلّ الكلّ في الّله ... والوحدة في الّله غير ممكنة إلّا بالتعالي على كلّ ما هو مادّي ...
وهكذا وجد الصوم ، الذي تقول فيه كلّ الأجزاء بصوتٍ واحدٍ ، نعم ، نعم ، أنا أريد الّله ، ولا أحد سواه ...
وهو ليس أداة تعذيب كما يعتقد البعض ، بل دواءً ناجعاً يوقف العذاب ... وهو لا يتوقف على حرمان النفس من أطعمةٍ تشتهيها ، لأنّ الكثيرين ممّن يسعون إلى تنميق أجسادهم يفعلون ذلك ...
والصائم إن كان ينقصه الإيمان والرجاء ، كسمينٍ يركض في أحلامه ، فالأوّل تغلبه خطيئته ، والآخر تقتله سمنته ...
والصائم بلا هدف كغيوم الصيف ، يتضعضع ولا ينفع ...
ثم حملها عصفورٌ صغير في فمه ، وعاد وسقاني إيّاها كما يسقي أولاده ... فغاصت في أحشائي ، وتفرّقت في شراييني ، حتى وصلت عقلي ، فقطعت لساني ، وأطفأت عينيّ ، فاستنار قلبي...

الصلاة


كنت أصلّي في صغري ، مرّة قبل النوم كما تعلّمت في المدرسة ... وكنت أقول كلاماً ، تارةً خطأً ، وتارةً ناقصاً ... بالجملة ، لم أكن أعرف لها ، لا هدفاً ولا معنىً ... هذا دون نسيان الأيّام التي قضيتها دون صلاة ، لأنّي تعبٌ حزين ...
وكنت أتساءل في بعض الأوقات عن الصلاة المثاليّة ... فغيّرت فيما كنت أقول عدّة مرّاتٍ ، لكن دون جدوى ، فما من واحدة جعلتني أرضَى أو أُرضِي ...
وكم من صلاةٍ جعلتني أحسّ بأنّي كثير البعد عن الّله ... لأنّي صاحب رأسٍ تسرح وتمرح فيه أفكارٌ ذات أو بدون معنىً ، ما إن أركع ...
لكنّي أحسّ دوماً بحاجتي إلى الصلاة ، فماذا أفعل ؟...
فقادتني رجلايّ صوب مكانٍ في الغابة ، حيث اختليت بنفسي أوقاتاً طويلة ، وأنا أفكّر بمرارة الأيّام ، وحلاوة الحياة ... فوجدت قطرةً منهمكةً بتلميع الأعشاش والأعشاب ... فاقتربت وعانقتها ، فرفرفت بين يديّ ... حيّيتها قائلاً :صباح النور ...
فقالت :للبيعة ...كيف الأرض في هذه الأيّام ؟...
قلت :جافّة ...
قالت :وأنت ، هل تصلّي لترفعه عنها ؟...
قلت :لا أعرف كيف أصلّي !.. لكنّي أريد أن أعرف ، لماذا الصلاة ، وكيف يجب أن تكون ..
قالت :الصلاة ليست فرضاً ، ولا خياراً ... لا ترتبط بوقتٍ ، ولا مكان ... تبدأ بولادتك ، ولا تنتهي بموتك ...الصلاة هي صوت الروح ، صرخة شوقٍ إلى الحبيب الخالق ...هي عماد الحياة ، وحاكمة الماضي والحاضر ، والمستقبل ...
هي عكّاز الأرض ، وقارعة أجراس السماء ...
هي جلّادة الشياطين ، وفخر الرب ...
هي من الإنسان ، وفيه ، وله ...
هي ملكة ، وهو المملكة ... لا حول له بدونها ، ولا عمل لها بدونه ... ومع ذلك يخافها الضعفاء ، وينكرها المتكبّرون ، ويرجمها المستقوون ...
لأنّها سرّ الخلود المعروف ...
لأنّها تفوح من قلوب الأقوياء ...
قلت :وكيف أصل إلى الملكة ، وأنا لست إلّا خادماً حقيراً ؟...
قالت:لن تلقاك إن لم تطلب الربّ من كلّ قلبك ، ومن كلّ نفسك …
قلت :وكيف أعرفها ؟…
قالت :تاجها التسابيح …عيناها الحياة …فمها المحبّة …قلبها الإيمان …يداها النجاة …ورجلاها حضنٌ للإنسان …
قلت :وكيف أبقى معها إلى الأبد ؟…
قالت :ارمِ عنك كل ما يبعدك عن الّله...
ثم حملتها النسائم ، ووضعتها على لساني ، فتفتحت عينا أمّي على صوتي وانا أقول : أبانا الذي في السماوات ، ليتقدّس إسمك ، ليأتي ملكوتك ، لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض ، خبزنا كفافنا أعطنا اليوم ، واغفر لنا ذنوبنا ، كما نغفرنحن لمن أساء إلينا ، ولا تدخلنا في تجربة ، لكن نجّنا من الشرير . آمين

Thursday, July 22, 2004

لِمن الحقّ ؟


منذ نعومة أظافري ، ومثل كلّ أطفال العالم ، تعلّمت رسم الحدود ... حدودٌ بيني وبين الكلّ ، ففرزت الأشياء ، والناس ، والقرى ، والمباني ، ووضعت الحواجز لحماية حقّي ... وعلى الكلّ وضعت لائحةً ، تقول : هذا لي ...
وهذه الحدود لم تكن لأملاكي وحدها ، بل لكلّ إنسانٍ حدود ، وهناك حتى حدودٌ بين الحدود ... ويقف القانون حارساً على كلّ الأبواب ، فإن تعدّى واحدٌ على الآخر ، قام الحارس ليرفع واحداً ، ويضع ثانياً ... فتارةً يرتفع الوضيع ، وتارةً يتّضع الرفيع ... وهكذا نقضي حياتنا طلوعاً ونزولاً ، فرحاً وحزناً ، وهذا طبعاً إن أنصف الحارس ... فلمن الحقّ ؟...
وللحال ، قادتني نفسي إلى إحدى الأراضي التي امتلكتها أبّاً عن جد ... وهناك وجدتها واقفةً في وسط زهرةٍ من أزهاري ... فحملتها ، وقلت : ليشرق النور ...
فردّت :على الأرض ... الواحدة ، وليس المقسّمة ...
قلت :وما الفرق ؟ أليست القسمة مشروعة ؟...
فقالت :ما هو هذا الحقّ ، ولماذا يدّعي الناس بضرورة وجوده وأهميّته ، ومكانته قبل كلّ الأشياء ... أليسوا هم المتبجّحين في مقت الأنانيّة ؟... أما علمت أنّ الحقّ هو الأنانيّة ؟... فلماذا التخفّي خلف الكلمات والمعاني ؟!...لكنّي لست ههنا لألوم شخصاً ، أو جماعةً ... بل ألوم الكلّ على ما فعلوه بالجميع ...هذا الحقّ هو مثلٌ صغير على الأبنية الفاسدة المختلّة ، التي بنيتموها في هذا المجتمع ، فجلس كلّ منكم في خليّته ، ليفصّل الأمور على مقياسه ... فصار كلّ ما لمصلحتكم حقّاً ... وهذا البناء الزائف ، صار محكمةً حتى لخالق السماوات والأرض ... فتتطاولون عليه ، رافضين كلّ عطيّة ، متكبّرين على كلّ نعمة ، متذمّرين على كلّ تجربة ... وكم صرختم في وجهه ، وكفرتم به ، لتقولوا أنّ ما أخذه منكم ، أو ما لم يعطه لكم هو من حقّكم ... وبما أنّكم لستم ممّن لهم القدرة على التحصيل منه ، سقطّم في دوامةٍ من الحزن والألم ، وتحوّل الربّ عندكم إلى ظالمٍ منتقم ، لا يعرف كيف يوزّع العطايا ، فيرسل دوماً لمن ليس لهم أسنان ...أما عرفتم يوماً أنّ العطايا ليست حقّاً لأحد ، وليست أجراً يتقاضاه أحد ، وليست ملكاً لأيّ أحد ...بل هي كلّها من الّله تنبع ، توهب لشخصٍ ، لا لتكون له وحده ، بل للكلّ ... فيخدم بها الكلّ ، فاللّه ...بالتالي لا حقّ لأحد ...نعم ! نعم ، لا حقّ لأحد ، لا على أحدٍ آخر ، ولا على اللّه ... لأنّ من يطالب بحقٍ ، يجب أن يكون حرّاً ... فمن منكم يمتلك نفسه ؟
ومع ذلك فأنتم تقتلون لأجله ، لا بل وتموتون عنه ...وهذا عالمكم ، القائم على "القُّل لي كم معك أقل لك من أنت" ، صارت فيه العطايا من إنسانٍ لآخر ، سواءً للقول للّه ، أعطيت أخي ألوفاً فأعطني الملايين ، أو ليرفع على الأكفّ بقدر ما تبرّع ...
قد لا يكون فات الأوان عليك ، وعلى من هم من جيلك ، رغم أنّ الإعوجاج في نفوسكم مرّت عليه سنون طويلة من التحجّر بالمادّة ... لكن إن ربّيت في يومٍ من الأيّام إبناً ، فعلّمه كيف يتجرّد من حقوقه ، وحدوده ، كي يحصل على الحقّ الوحيد في هذا الوجود ، وهو ان يحبّ الجميع ، فيحبّه اللّه ...
فغاصت في يديّ اللتين ارتفعتا ، ولم تنزلا حتى هدمت كلّ أصنامي ، وأسواري ...

الحقيقة


كان يجول في خاطري دوماً سؤال : أين هي الحقيقة من الناس ؟... وكنت أعرف أنّ الضمير ينكّد عيش المتعدّين عليها ... لكن يبقى وخزه على الدوام ، أخفّ ممّا يزرعه الخوف من وساوس ، وما يرغم الإنسان على الإقتناع به ... فما هي هذه الحقيقة ؟... وهل هي حقيقة ؟...
فحُملت ، واستقرّيت أمام قبرٍ ، فاستغربت ... لكّني ما لبثت أن رأيت قطرةً ، متعلقّةً بزهرةٍ زرعت فوقه ... فحملتها ، قائلاٍ : سلام ...
فقالت :لكلّ البشر ...
قلت :لمن هذا القبر؟...
فقالت :لأوّل وآخر رجلٍ قال الحقيقة ، وقتل لأجلها ، ولأنّه كذلك لم يسكُنه يوماً ؟...
فخلعت نعليّ وخشعت ، لأنّي عرفت صاحبه ... ثم ما لبثت أن غطّيت وجهي بكفيّ ... وصمتت ... فأعقبت قائلةً :الحقيقة هي التي تنير عقولكم وقلوبكم ، ويطفئها جهلكم وبغضكم ...
هي في قلب الّله ، وكما أنّ قلب الّله أزلي كذلك تبقى هي أزليّة...
هي حبّةٌ من سلسلةٍ ، تسقط كلّ أجزائها إن ضاع جزءٌ ... فما من محبّةٍ دون الحقيقة ، وما من قوّةٍ دون الحقيقة ... ومع ذلك وجدت بينكم من كان أعمىً عنها ، وكان فارغاً لأنّه لا شيء يعنيه ... ومنكم من تعامى عنها ، وكان حزيناً لأنّه كان يخافها... ومنكم من أعمته بقوّة نورها ، وكان كئيباً لأنّه لم يرَ إلّا النور وبقي اللب بعيداً عنه ...
فقلت :ولماذا تؤلمنا الحقيقة ؟ ...
قالت :الحقيقة ، خيطٌ في رأسه الإنكشاف إبرة ... يحيكها ملائكة اللّه حول جراح أرواحكم ، التي خلّفتها الخطيئة ... فتؤلمكم ، لكنّها تقودكم حتماً إلى الشفاء ... هي تؤلم اللّه أيضاً لأنّكم جعلتموها إكليلاً من الشوك ، هو الذي لا يفكرّ إلّا بما يعطيكم من خيرات ... فهو ليس قوّةً ظالمة تسحق الناس ، بل بالعكس هو قوّةٌ رحومة ، هو قاضٍ عادل ، لكنّكم أيّها الناس تخافون من القاضي العادل ، لأنّكم تعرفون القوانين وتسيرون عكسها ... فالسماء لكم مجّاناً ، وأنتم تدفعون ثمن ما هو شرّير ...
ثم فردت أجنحتها ، وحطّت في أحاسيسي ، فبكيت قائلاً :
سامحني يا ربّ لأنّي أنسى آلامك عندما تغويني الخطيئة .
سامحني يا ربّ لأنّي لا أذكرك أبداً إلّا عندما أحتاجك .
سامحني يا ربّ لأنيّ صرت بجسدي معبداً للشر .
سامحني يا ربّ لأنّي كلّما حاولت الاقتراب منك توقفني العوائق .
سامحني يا ربّ لأنّي أعيش في عالم جفّفت فيه المادة إيماني .
سامحني يا ربّ لأنيّ إنسانٌ ضعيفٌ بدونك أمام الحقيقة .
سامحني يا ربّ وساعدني لأبكي إن أخطأت ، علّ بكائي يشفي الجراح التي جعلها كوني إنساناً في قلبك ...

في القلعة


خرجت من مسكني ، ورحت أزور المناطق كما سيّرتني إرادة ربّي ... وكانت المدينة الأولى ، فوجدتها متخبّطةً في الضجيج ، والضياع يملأ دورها ، والرتابة تنهش أبناءها ... وأمّا دينها فكان الكفر ... فرحت أصرخ حزيناً : كيف أساعدك ؟... ماذا أقول أنا الأخرس ، وماذا أفعل ؟...
فحملني حزني إلى قلعةٍ بناها بنو البشر ليحموا أنفسهم من بعضهم ... وكانت قديمةً جدّاً ، فلم يبقَ منها إلّا حائطٌ صغيرٌ قبالة البحر ...وكانت قطرة ندىً تحطّ رحالها على حجارتها الباردة ، لتغسل عنها الدماء والآثام ... فلامستها قائلاً : أتساعدينني ؟...
فصرخت في الأرض قائلةً :أين جبروتك أيّتها السهام ؟
أين قوّتك أيّتها السواعد ؟
أين عظمتك أيّتها الحجارة ؟كلّك صرت إلى الفناء ... فلو أنّك سمعت كلمة إله السلام ، لما كان لك يوماً أعداء ... لكنّ نفسك عدوّتك ، وبمقتك وكرهك دفنت نفسك ...لو أنّك أصغيت إلى ربّ المحبّة ، لسجّلت اسمك في سفر الخلود ... لكنّك آثرت أسفار التاريخ ، ليمجّدك أبناؤك المتعطّشون إلى الوحشيّة والدماء ... فنسيت أنّ أسفار التاريخ تموت مع البشر ، ولا يبقى لك إلّا النواح وصرير الأسنان ، عندما لا ينفع ندم ولا تقبل طلبة ...
ثم نظرت إلى بيوت البشر المبنيّة في حمى حائط الزوال ، وقالت :
وأنت أيّتها المدينة ، تعلّمي واتّعظي ... ها هو الخراب أمام عينك ، وتاريخك يثبت أنّ حضاراتٍ أقوى منك بكثير ذهبت مع الريح ...
فابتعدي عن الكذب والتملّق والخداع ... ابتعدي عن الزنى ...عودي فاركعي خاشعةً لربّك ، ولا تدعي المعيشة وهمومها تبعدك عن الحقيقة ...
انظري إلى النور فهو فوقك ...
ارفعي رأسك نحو السماء ، ولا تبقي شاخصةً إلى أصنامك الفانية ...عودي إلى الطهارة ...عودي إلى البراءة ...عودي إلى الإيمان ...
ثم قفزت إلى وجداني ، وراحت تربّت أكتافه وهي تضحك ... وأمّا صدى صوتي فكان يجوب في المدائن ، قائلاً : توبوا فقد اقترب ملكوت السماء ...

الإضطهاد


في يومٍ ، زرت كنيسةً رابضةً على سفح الجبل ، قبالة قريةٍ صغيرة بالعديد والمساحة ... وبينما كنت جالساً أنظر إلى بيت آخر مؤمنٍ فيها ... سمعت صوت صراخٍ ، ثُم ما لبثت أن رأيت الناس يجرّونه حافياً ، ثم يخرجونه خارج القرية ويرجمونه حتى الموت أمام ناظر أولاده ...
فوجّهت نظري صوب الكنيسة ، وكانت قطرة ندى تتدلّى من على الصليب الرخاميّ الأبيض ، تمسح عنه غبار الأيّام ، ليشرق مع الشمس على الناس ... حملتها باكياً ، فراحت تقول :ما بالك أيّها الإنسان تتجنّد للظلم والكفر ...فبالأمس كنت ترجم الزانية ... وها أنت اليوم تقدّس العهر باسم الحرية ...
والمؤمن بالذي أنهاك عن رجم الخطأة ، ترجمه ، ولماذا ؟!... لأنّك رأيته مختلّاً للطفه وتواضعه ...لأنّه ليس معك في تيّارٍ صنعه التقدّم ، ووزّعته الموجات الصوتيّة والصوريّة ، وباركه الشيطان ... تيّارٌ جعلك آلةً ، يقال لها ما تأكل ، وما تشرب ، وما تتصرّف ...تيارٌ رَسم لك جمال الجسد ، فلم تعد تعرف غيره ... تراه ولا تلمسه ، فتقف أمامه فاغر الفاه ، لا غاية لك إلّا تذوّقه حتى ولو كان سمّاً ...
يُسمعك ما يريد ، وأنت تحفظه وتردّده ، حتى ولو كان كذباً وسفاهة ...
يُريك صورةً عن حياةٍ غريبةٍ ، مدسوسة ، فتعتقد أنت أنّها الحياة الحقيقيّة ، فتحملها معك إلى بيتك وأهلك ومجتمعك ، من أزياءٍ وحركاتٍ وكلمات ... وبدعٍ وخلاعة ... وكلّ القصد تحويل كلّ إنسانٍ إلى تافه ، مريضٍ بشهواته ، لكن متماشياً مع العصر !…
عصرٌ صار فيه الزنى فضيلة ، والكذب حذاقة ، والسرقة حق ، ومحبّة الذات واجباً ...عصرٌ صارت فيه الطهارة رجعيّة ، والصدق وقاحة ، ومحبّة القريب تفاهة ...فدين المؤمن بالإيمان ، ورجل الحقّ غدا متحجّراً ، متزمّتاً ، لا يستحق العيش بين الناس … ورجمتموه …
فإن كان التقدّم يقتل الإنسان ، ليتوقّف ... بل وليعد إلى الوراء ، إلى أزمنة الحبّ والوئام والبراءة والنخوة ، ولتكن وجهته الربّ ، وإلّا فسينتهي هو ومن يخطّط له ، ومن يسير خلفه إلى الهلاك … لا ، لا أصدق ما تفعلون ؟!... أما علمتم أنّه يوم سدوم وعمورة ، لو وجد فيها عشر مؤمنين لما أحرقت ... فبدل أن تزيدوا بالإيمان ، تقتلوان المؤمنين ؟!…
فعانقني ، وأمتصّها كياني ... فحملت غصناً من شجرة الحياة ، ورحت أطفئ لهيب الشرّ الذي يلتهم أهلي...

في الهيكل



سرت بين الناس المصلّين ، فوجدتهم فرقاً ... كلّ يقول أنا الطريق ، وأنا الحقّ ، والأصل ... يقفون في المكان نفسه ، ويرفعون صلواتهم الى اللّه ، جاهرين بإيمانهم بالفادي المسيح ... كلّ يقول أنا الطريق ، وأنا الحقّ ، والأصل ... ويرفض الآخر ، ويمنع الخلاص عن الآخرين ... ولا يكون صالحاً إلّا مع من يتّبعه ... وأبشع ما يمكن تخيّله ، هو الخلاف حول العذراء ، والرسل القديسين ... من يصلّي لها ولهم ، ومعنى الشفاعة ...فتحوّلت الصلوات ، والتبشير إلى نكدٍ ، ومشاكل ، هي التي هدفها الوحيد السلام ...لا بل راح كلّ منهم يكيد للآخر ، ويسقطه ، فأضطهد المسيحيون بعضهم ... فصرخت ، أنا الغارق في هذه الجلبة من على أعلى قمّم الأرض ، حيث ربض هيكلٌ كبير ، صنعته الأيادي بما حملته أكتاف المؤمنين بالّله وليس بالحجر ...
استدرت ، فوجدت قطرة ندىً كانت صعدت كما في كلّ يومٍ مع الورود ، لتشترك مع العبير ، والصلوات والتراتيل في تمجيد وتقدير من جبل هذه الأرض ، وما عليها ...
من حيث ربضت العظمة ، معانقةً الخشوع ، والتواضع ، حملت القطرة ، التي ما إن تحوّلت ، حتى نظرت صوب المتبجّحين بالعلم والمنطق ، مَن كبرياؤهم أهمّ من اللّه وإخوتهم ، وقالت :إلى متى تبتغون المواربة ، متّبعين تعاليم الناس لا تعاليم الّله ؟...إلى متى ستستمرّون بتأويل الكلمات ، وتحوير المعاني ؟ أما علمتم أنّه يوم بدأتم بالفلسفة ، خسرتم كلّ شيء ...أما عرفتم يوماً أنّ المعنى واحدٌ وهو المحبّة ، والهدف واحدٌ وهو الوصول إلى الّله ؟...فمن لا يحبّ أخاه لا يحبّ الّله ...ومن يحبّ لا يدين ... لا يهزأ ... يغفر ، ويصحّح لأخيه إن أخطأ ، ولا يدمّره ... ومن لا يفعل ذلك ، ليس الّله ربّه ...
ديننا هو الرحمة ، البساطة ، والتواضع ...لقد حذّركم الربّ للابتعاد عن المناقشات لأنّها تؤدّي حتماً إلى الخصومات ...وها أنتم اليوم مئات الفروع ، وكلّ فرعٍ مئات الأقسام ... وكلٌّ يدين الآخر ، ويعظّم نفسه ؟...كلّ يقول أنا الحقّ ، والباقون باطل ...أما عرفتم أنّ الّله وحده هو الحقّ ، وكلّ أعمال البشر والشياطين باطل ؟...
وأمّا العذراء والقديسون ، فلم يكونوا يوماً لإقتسام الغلّة مع الربّ ... وهذا أكيدٌ لأنّ ما لهم وما يجمعونه كلّه للمسيح ... والطريق إلى اللّه هو السيد المسيح وحده ، وأمّا هم فقد سلكوا هذا الطريق ، وكانوا مثلاً أمام ناظركم ...فاعلموا أنّ العذراء والقديسين يرفضون أن يكونوا سبب خلافٍ بينكم ...لكنّكم تفنّدون الكتب دون فهمها ... ولن تستطيعوا يوماً ذلك لأنّكم لم تقرأوها بقلب طفلٍ ... لأنّكم لا تريدون المسيح ... بل تريدون بدعاً وأفكاراً شيطانيّة تفصّل لكم الربّ حسب أذواقكم ...
فما هذا الذي تفعلونه ؟ وماذا تنتظرون ؟...شذّبوا الكنيسة ، لأنّ كثرة فروعها وأقسامها تحدّ من علوّها ومجدها ...اتركوا كلّ شيء ، واتبعوا الّله قبل فوات الأوان ، كلٌّ في عمله ، في بيته ، في كنيسته ... ولتكن الوحدة وحدة قلوبٍ لا وحدة آراء ... فلكلّ قسمٍ رأيه ، ولكلّ شخصٍ رأيه ، ولن تتحد الآراء يوماً ...لتكن الوحدة في الإيمان لا في الطقوس ... وإن كان لكلّ قسمٍ طقسه ، ولكلّ إنسانٍ طقسه والصلاة التي يحبّ ...
واعلموا أنّ الربّ لا يدين بحسب الرأي والطقس والقسم والفرع ، بل يدين بحسب الإيمان ...والصلاة والعبادة ليست لاستحقاق المكافآت من الّله ، فلا يأخذ من يسير ميلاً حافياً أكثر ممّا له ، ولا يخسر من ركع في مخدعه محبّة الّله ...
شربت القطرة ، فغاصت أجزاؤها فيّ ، فرحت أقول : نعم اللّه يحبّكم جميعاً ... نعم جميعاً ... فتجمّعوا حوله ، واتحدّوا بمحبّته ...

بيت الربّ


في يومٍ ، كنت أزور معبداً في إحدى القرى ، فوجدتها ملطّخةً بأوساخٍ ، شوّه بها الناس جمالها ، في احتفالٍ أقاموه ... إحتفالٌ ، استحضر بطولات الماضي ليزرعها في النفوس الهشّة ، فيولد مستقبلٌ أسود في بيت اللّه ...عانقت حجارتها حزيناً ، فقامت قطرة ندىً كانت تحطّ على أحداها ، وصرخت في وجه هذه القرية قائلةً : بيت الربّ ، بيت عبادةٍ ، وأنتم حوّلتموه إلى مغنىً ومرقص ...فلم يعد أحدٌ يراكم في وقت الصلاة ، لأنّها صارت للمسنّين وخفاف العقول ... أمّا وقت الكفر والدعارة ، فلا يفوّته واحدٌ من شبّانكم ...كلام السفاهة تسمعونه ، وتفرحون به ، لا بل وتدفعون ثمنه ... وأمّا كلام الربّ فلكم مجّاناً ، وترفضونه ...
عجباً ... عجباً منك أيّها الإنسان !! فلا أجدك إلّا منزلقاً خلف الخطيئة ...دوماً تنسى اللّه الذي برفعة يدٍ هدّأ الرياح ، وبكلمةٍ منّه تدحرجت صخور الجبال وغارت في البحر …طيور السماء ، ووحوش الغاب خضعت له ، وأزهار الحقول والأشجار خرّت أمامه ...كلّها سارت بنظامٍ كما أمر، وعنه لم تحد ، وما تعدّى عنصرٌ فيها على آخر ... أمّا أنت ، فلا أحد سواك يجاهره ...يقدّم لك فتأكله ... يحرمك فتطرده ...ولم تحسن يوماً استعمال ما أعطاك ، بل خرّبت كلّ شيء ... فالحرّية التي أعطاك صارت أداةً لقتلك بعقلك الصغير ... لا ترى برغم العينين اللتين أعطاك ، ولا تسمع صوته الذي كلّ من مناداتك …
فما نفع المال ، والحجارة ، والذهب ... والناس تائهون ، يشتمون الظلام ، ويرفضون السير في النور ...لكن هل تستطيعون الإصغاء ، وآذانكم صمّتها حجج المدنيّة والحضارة ؟...مدنيّتكم التي جعلت الحريّة أقدس من اللّه ...مدنيّتكم التي حمّلتكم تمثال الزانية ، لتضعوه قرب الطهارة ... فسجدتم للزنى ، ورجمتم الربّ ...مدنيّتكم التي هزأتكم من خالقكم ، عندما حلّت لكم نثر العهر قرب البخّور ...
الآن ، حضارتكم ، وثقافتكم هي أتفه ما على الأرض ، واسمكم سيكون رديفاً للعار ، وقد كان له أن يقترن بالقداسة ... لأنّ معابدكم كبرت ، وحجارتها تعالت ، لكنّ إيمانكم صغر حتى الموت ... جعلتم بيت الّله ، ملتقى أفراحٍ وأتراح ، وليس بيت صلاة ...حتى أنّكم حوّلتم الصلاة إلى تقليدٍ موسميّ ...لكنّ تبجّحكم بالعلم والمنطق ألغى عقولكم ... فعرف عقلاؤكم أنّكم غير أحياء بدون صلاة ...
لا أعرف ؟... لا أعرف ؟... كيف تحجمون عن الصلاه لساعةٍ واحدة ، من أسبوعٍ طويل ، يعتني في كلّ ثانيةٍ منه بكم ربّ الكون ، وأنتم من يجب أن تصلّوا كلّ اليوم ، كلّ يومٍ في الأسبوع ...ألا تعرفون أنّه في ساعة الحساب ، لن تنقذكم هويّاتكم ، لا بل سيرفضكم الكلّ ، لأنّكم رفضتم الدخول عندما كان الباب مفتوحاً ... رفضتم ، كلٌّ بحجّة ، كي تخفوا تحجّر قلوبكم ، وسروركم بتحجّرها ...
لو كان للأستسلام مكانٌ في قلب اللّه لكان ترككم منذ آلاف السنين ، لتتخبّطوا وحدكم في البشاعة والجوع والدمار ... لكنّه لا يعرف الضعف ، وسيبقى وراءكم إلى الأبد ، كي يحصد المحبّة التي ابتكرها وزرعها في قلبكم ...فهو لا يريد منكم إلّا ما هو منه ، يريدكم أنتم …

ملأت قلبي


مرّت الأيّام ، وقد صار في قلبي مخزنٌ لا ينضب ، ولن ينضب أبداً ... وفرحتي صارت بلا حدّ ... وسلامي غلب الكلّ ... وصرت أرى كلّ الأرض خيراً ... لكنّي ممنونٌ لمن أعطاني ، الذي لا أفتخر إلّا به ... كما أريده أن يفتخر دوماً بي ... فوقفت أنا الحقير ، وخرجت منّي هذه الكلمات بصوتٍ سمعه كلّ سكان هذه البسيطة :يا ربّي قد عرفتك منذ صباي ، حين شاهدت قوّة ساعدك وهي تبدّد المستقوين ... فسرقت ألباب قلبي ...أحببتك ، فأحببت كلّ الأحياء والأشياء بك ...أحببتك ، فملأت قلبي ، فعشت بك ...فلم أعد أستطيع يوماً شيئاً دونك ...
أنهيتني عن أشياء كثيرة ، ومع ذلك شذذت في طريقي ، لكن لو كان غيرك سيّدي لما رحمت يوماً ...
فمن أنا ؟ ، وابن من أنا لتنظر إليّ ؟ ...من أنا لأستحقّك ؟ ...من أنا لأحملك في قلبي ؟... وهل يستطيع قلبي تحمّل كثرة حبّك ؟!...هل يستطيع حمل من خلق الكون ؟!...لا ، لا . هذا يفوق قدرتي على الأحتمال ...فأنا طفلٌ صغيرٌ ، صغير ...فحرّررني من ماديّتي ، وافرد أجنحة روحي لأطير فوق كلّ الأرض ... لأطير صوبك ... لألاقيك ...
فقال الندى الذي حملته :وإن كانت رجلاك على الأرض ، لكنّ قلبك يحلّق قربه في السماء ، وأجنحتك أجنحته تلف كلّ الأرض ...ألا تعرف من أنت لتستحقّ ما يملك ؟ ...أنت ابنه ككلّ من يؤمن به ...نعم أنت ابنه ، على ساعده ترعرعت ... وبيده أطعمك ثقافة الحياة ... وبأصابعه عزف لك لحن الحبّ فامتصّه كلّ كيانك ...فجسدك الذي نهل منّه ، تموت على أبوابه الخطيئة ...كن صورته بين الناس ... عرّفهم عليه ... قل لهم أنّه يحبّهم ولا يريد منهم شيئاً ...قل لهم أنّهم مهما فعلوا سيرحم ، ويظلّ يرحم ...قل لهم أنّه يحبّ ، وحبّه لا ينتهي ولن ينتهي .

حروف


شرّعت أبواب بيتي ، وخرجت رافعاً يديّ صوب السماء ... وكان قلبي يخفق بقوّة ، حتى كادت ضرباته تفتح صدري ، فيسبقني لملاقاة الحياة ...
خرجت ، وكانت أمامي الحقول ، الأودية ، الغابات والجبال ...
خرجت ، وكانت تجتمع أمامي كلّ القرى والمدائن ...وسمعت صوت أجراسٍ تقرع ، وأصوات أهازيجٍ تعلو ...وكان الندى يحطّ على كلّ المسكونة ... كلّ قطرةٍ نقطةٌ من حرفٍ ... فرحت أقرأ ما كُتب على الأرض بصوتٍ عالٍ :سلام اللّه لكم جميعاً ...أقوله ، ومن كلّ قلبي أتمنّاه لكم ...إعلموا أنّ اللّه رأى ويرى هذا الشرّ المتربّص بكلٍ منكم ، المغرق حياتكم في الخوف ، والحزن ، والألم ... ويعرف ضعفكم ...فتحالفوا معه ، بالصلاة والمحبّة والإيمان ، لتقفوا في وجه عدوّكم الوحيد ، الشيطان ...ولا تخافوا السقوط ، لأنّه ههنا في كلّ حين ليرفعكم ...فلا تعتقدوا أنّه ترككم ، أو سيترككم يوماً ، لأنّه لا حدود لرحمته ، أو لمحبّته ...حتى أنّه بذل ابنه الوحيد ، كي لا يهلك المؤمنون به ...فاطردوا من بينكم الشرّ ... ولينكسر هذا البرقع ، ولتتمزّق هذه الستائر الإصطناعيّة ... فأنتم لستم بعيدين عن النور ... ليس عليكم ألّا أن تقولوا للربّ : تعال واملك على قلوبنا ... لا ، لا ليس أكثر ...
أطلبوه ، أطلبوه في كلّ حين ، ولا تتأخرّوا يوماً ...وليكن صباحكم تسبحةً له ، والمساء شكراناً ...فلا تنسوا أنّ هناك سماء إن تضايقتم في الأرض ...ولا تخافوا ، لأنّ الربّ هو إلهكم وهو الملك ...
نعم إنّ الأرض موطئٌ لعرشه ، وقدماه تثبّتانها …وأولئك المقتدرون الذين يتلاعبون بها ، فهو يدوسهم مهما علت رؤوسهم …والشيطان الذي يخرّبها ، فتعرفون كما يعرف مصيره … أمّا أنتم فأبناءه أسماكم ...وقد رفع على كتفه كلّ خطاياكم وأحمالكم الثقيلة ...
أنيروا طرق بعضكم ، ولا تخفوا المصابيح تحت ثيابكم ، فتسقطوا وتُسقطوا الآخرين ...
أغفروا بعضكم لبعض ، ولا تدينوا كأنّكم بدون خطيئة ...أحبّوا بعضكم بعضاً ...أحبّوا بعضكم بعضاً ...وليحفظكم الثالوث القدّوس في كلّ حين ...
وفي تلك الساعة ظهرت الشمس ، فانطلقت لأجمع النقاط ، واحدةً واحدة ، ودون نقصان ، لأنّ كلًّ منها دواءٌ لكلّ القلوب ... دون نقصان ، لأنّ هدف حياتي شفاكم كما شفيت ...
النهاية
د. ساسين ميشال النبّوت